“نيرون” قصيدة من قصائدي المفضلّة للشاعر والكاتب خليل مطران، شاعر القطرين الذي ولد في لبنان عام1872 وغادرها إلى باريس ليدرس الأدب الغربي ثم عاد إلى مصر حيث قضى معظم سنوات عمره مبدعا أدبا وشعرا وفكرا.
دعا مطران وعدد من معاصريه من الأدباء للتجديد في أغراض اللغة والأدب والشعر لإخراجها من أغراضها التقليدية لكي لتناسب مع العصر وأغراض الحداثة، داعيا في الوقت ذاته إلى الحفاظ على أصول اللغة والتعبير، ولم يدّخر جهدا في هذا الصدد، فكان مع زملائه، أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم من المؤسسين لحركة التجديد الأدبية مدخلا عليها الشعر القصصي والتصويري، ومعيدا للغة العربية رونقها وللشعر شبابه.
درست في منهاج بلادي آنذاك أبياتا عدة من قصديتي “مقتل بزرجمهر” و”قصيدة المساء” لمطران. تصور الأولى مشهد إعدام بزرجمهر، الوزير النصوح، بأمر من كسرى ملك الفرس، في إعدام علني أمام الآلاف. أما “قصيدة المساء” فهي مرآة الطبيعة لروح الشاعر وخواطره. وأسهب المنهاج في تفسير معانيها ودلالاتها في توصيف الأسلوب والتجديد فيه. أما قصيدة “نيرون” فلم يتطرق إليها كتاب “الأدب” إلا بشكل مقتضب جدا، مثنيا عليها في الوقت ذاته وواصفا إياها بإحدى روائع أدب تلك المرحلة.
تركت تلك الجمل الهامشية أنذاك عندي توقا لمزيد لم أعرف لإشباعه سبيلا. إلى أن وقع كتاب عن سيرة وشعر خليل مطران لصياح الجهيم بين يدي، هدية من صديقة غالية، احتلت كتب الأدب العربي وكنوزه حيزا قيما من مكتبتها. لم تخيب القصيدة ظن هاو للشعر، كما لم تخيب ظن العارفين. إلا قلة أخطأوا غاية القصيدة في تقديري.
لربما اختار خليل مطران موضوع القصيدة “نيرون” لغرض اجتماعي، في سياق قصائده الأخرى الداعية لمناهضة الاستبداد، فقصيدة نيرون تأخذنا إلى مشهد من مشاهد تاريخ الإمبراطورية الرومانية في عصرها الذهبي، مشهد يقوم يفتعل فيه الإمبراطور نيرون حريقا هائلا في العاصمة روما، حريق يستعر لتسعة أيام متواصلة ويأتي على ثلثي مساكن المدينة ويرمي بالبلاء والويلات على سكان المدينة المليونية. ولربما أراد الشاعر إعلامنا عن مخاطر الانفراد بالحكم بقصة أخرى من قصص الطغاة الكثيرة. وربما تحمل القصيدة قيمة اجتماعية، وهدفا سياسيا وحكمة للأجيال. لكن تقديري أن للشاعر في مؤلفته غايتان. الأولى أدبية، والثانية فنية.
غاية أدبية، إذ أضاف مطران بقصيدته عملا جديدا إلى قسم الشعر القصصي التصويري الناشئ. فهو يرسم قصة حريق روما بالكلمات، ويسمعنا أصواته بالأبيات ونكاد نتذوق طعم المرارة والألم في اختياره والمشاهد والكلمات. يتجلى بذلك أدبه وإبداعه والتجديد في أعماله. أما الغاية الفنية، فهي العبقرية في عمل أي فنان ذو شأن. فهي قبلة كليمت، وهي الفتاة ذات القرط اللؤلؤي لفيرمير، وبوابة جهنم لرودان. فكأي فنان وفنانة، أراد خليل مطران إظهار مهارته وإتقانه للغة بمفرداتها وتعابيرها وللشعر بفنونه بمطولة فريدة يلعب فيها نيرون دور البطولة. فلما يقول نيرون، مغرورا، أن له في التصوير والموسيقى شأن وأنه ربما أفضل الشعراء، يصف مطران في الحقيقة نفسه على لسان نيرون مستخدما إيّاه وقصّته، لرسم لوحته الفنية الخاصة. لم تكن غاية القصيدة مناهضة الاستبداد وتعرية الديكتاتورية بقدر ما كانت غاية مطران إظهار مهارته وموهبته وعبقريّته وإبداعه.
«نَيْرون»
هُوَ بِالسُّبّةِ مِنْ «نَيْرونَ» أََحْرَى | ذلِكَ الشَّعْبُ الّذي آتَاهُ نَصْرَا | |
عَبَدوه؟ كانَ فَظَّ الطَّبْعِ غِرَّا | أيَّ شَئٍ كانَ «نَيْرونُ» الَّذي | |
لَيسَ بِالأَتْلَعِ يَمْشي مُسبطِرَّا | بارِزَ الصَّدْغَينِ رَهْلاً بادِناً | |
إِن يواقَفْ لَحظُهُ بِاللَّحظِ فَرَّا | خائِبَ الهِمَّةِ خَوَّارَ الحَشَى | |
وَجَثوا بَيَن يَدَيهِ فاشْمَخَرَّا | قَزمَةٌ هُمْ نَصَّبوهُ عالِياً | |
فَتَرامى يَملأُ الآفاقَ فُجْرا | ضَخَّموهُ وَأََطالوا فَيْئَهُ | |
صَارَ طاغوتاً عَلَيهِمْ أََوْ أَضَرّا | مَنَحوه مِن قُواهُمْ ما بِهِ | |
إِنْ يُكاثِرْهُ وَما أوْهاهُ صَدْرَا | يَكْثُرُ الِإعصارَ هَدماً ورَدىً | |
هو ظِلُّ المَوْتِ أَوْ أَعْدى وَأَضرى | مَدَّ في الآفاقِ ظِلًّا جائِلاً | |
أَوْ مَضى فَاظْنُنْ بِسَيْف اللَّه بَتْرا | إِنْ رَسا في مَوضِعٍ طَمَّ الَأََسى | |
تارِكا في إِثْرِهِ المَعْمورَ قِفْرا | مُتْلِفاً لِلزَّرْعِ وَالضَّرْعِ مَعاً | |
* * * | ||
لمْ يَخَفْ بَطْشَ الآلي وَلَّوْهُ أَمْرَا | إِنّما يَبْطِش ذو الأمرِ إِذا | |
مُسْتَهِلّاً عَهْدَهُ بالخيْرِ دَثْرَا | سَاسَ «نَيرونُ» بِرِفقٍ قَوْمَهُ | |
أنْ بَلا القَوْمَ فَما رَاجَعَ حِذْرا | مُسْتَشيرا فِيهِمُ الحِذْرَ إِلى | |
باسِطاً كَفَّيْهِ بالِإحسان مَرَّا | ضارِباً فِيهمْ بِكَفٍّ مَرَّةً | |
فَجَفَا ثُمَّ عَتَا ثُمَّ اقْمَطَرَّا | لأَنْ حَتَّى وَجَدَ اللِّينَ بِهِمْ | |
آنَسَ الِحلْمَ بِهِمْ مِنْه تَعَرَّى | لَبِسَ الِحلْمَ لَهُمْ حَتِّى إِذا | |
عَاقِلٌ في مَعْقلٍ يَأْمَنُ خَتْرَا | وَانتَحَى يُرهِقُهُمْ خَتْرا فَمَا | |
هُوَ مِنْ أَهلِيهِ في الأُدنَين إِصْرَا | بادِئَا تْجرِبَةِ البأسِ بمَنْ | |
أَعلَقُ الناسِ بِهِ قُربى وَصِهْرا | لَمْ يُشَفِّعْهُمْ لَدَيْه أَنَّهُمْ | |
رَابَهُ سَمَّا وَإِحْراقاً وَنَحْرَا | مُستَبيحاً بَعْدَهُمْ كُلَّ امرِئٍ | |
حَتْفَهُمْ حَيْتُ رَجَوا سَيْبا مُبِرَّا | مِنْ مُوالِيَن وَنُدْمانٍ لَقُوا | |
أَنْفَقوا مِنْ عِلْمِهم مَا جَلَّ ذُخْرَا | وَأولِي عِلْمٍ عَلَى تَأْدِيبِهِ | |
* * * | ||
سُقِيَتْ في كَأْسِكَ الأَقوامُ مُرَّا | لا سَقَاكَ الغَيْثُ يا جَهْلُ فَكَمْ | |
صَولةٍ، غَيْرَ مُبالٍ أنْ يُعَرَّا | أَنْتَ أَغْرَيْتَ بِظُلْمٍ كُلَّ ذِي | |
عَقَّها حَمْدا كَما لَوْ كان بِرَّا | وَسِعَتْ أُمُّ القُرَى ذَاكَ الَّذي | |
فَامتِداحاً، أَوْ يُكَلِّمْهُمْ فَهُجْرَا | إِنْ يُكَلِّمْهُ الأَعَزُّونَ بِها | |
في مَجَالِ الذُّلِّ، تَحْبيذاً وَشُكْرَا | فَمَضَى فِي غِيِّهِ وَاسْتَرْسَلَتْ، | |
مَالِكُ الضُّرِّ، مَنيعٌ أَنْ يُضَرَّا | أَلَّهَتْهُ، أَوْهَمَتْهُ أَنَّهُ | |
بَرَّأَتْهُ آبِياً أَنْ يَتَبَرَّا | فإِذا أَوْضَعَ في تَفظِيعِهِ | |
كُلَّما أَزْرَى بِها شَدَّتْهُ أَزْرَا | بَلَغَ التَّملِيقُ مِنْها أنَّها | |
هُوَ إلا أَنْ نَوى حَتَّى أُقِرَّا | كُلَّ يَوْمٍ يَدَّعي فَنَّا فَما | |
* * * | ||
يَا فَقِيد الشِّبْهِ، فُقْتَ النَّاسَ طُرَّا | قالَ: بي حُسْنٌ فَقالَتْ: وَبِهِ | |
فَأَجَابَتْ: وَتُعيدُ الصَّحْوَ سُكْرَا | فَتَرَقَّى، قَال: إِنِّي مُطْرِبٌ | |
غُرَرٌ، قالَتْ: وَتُؤْتي الرَّسْمَ عُمْرَا | فَتَمادى، قَالَ: في التَّصْويرِ لِي | |
شِبهَ لي، قالت: وَتحيي المَيْتَ نَشْرَا | فَتَغالى، قَال: في التَّمْثيلِ لا | |
فَأَجابَتْ: إِنَّما تَنْظِمُ دُرَّا | فَتَناهى، قَال: إنِّي شاعِرٌ | |
خُطّةً أَدْهى عَلى المُلْكِ وَأَزْرَى | فَعَرَتْهُ جِنَّةٌ زَانَتْ لَهُ | |
* * * | ||
مُحرقاً رُوما ليَسْتَبْدعَ فِكْرَا | فازَ نَيْرونُ بأَقْصى ما اشْتَهَى | |
ما بِهِ أَصْبَحَ في التَّمثيِلِ شَهْرَا | بعدَ أَنْ حَصَلَ في تَمثيلِهِ | |
رَقَضَتْ أمَّتُها وَسْنى وَسَكرَى | شُبّتِ النَّارُ بِها لَيْلاً وَقَدْ | |
وَمَشَتْ دَفَّا وإِحْضاراً، وعَبْرَا | شُعْلةٌ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ نَهَََضَتْ | |
تَلْتَقيها في عِناقِ الوَهْجِ أُخْرَى | زَحَفَتْ رابِيَةٌ مُضْرَمَةٌ | |
في جَحيمٍ تَصْهَرُ الأَجَام صَهْرَا | جَمَعَتْ أَقْسَامَ روما كُلَّها | |
تَتَرامَى وَالدُّمَى تَنْقَض جَمْرَا | فَالَمباني تَتَهاوى والُجذَى | |
غَامَروا هَوْلاً وَسَاءَ الهَوْلُ غَمْرَا | وَالأَناسي حَيَارى ذُهَّلٌ | |
تَخْذُوا الأَشْلاءَ فَوْقَ الوَقْدِ جَسْرَا | خُوَّضٌ فِي الوَقْدِ إِلا نَفَراً | |
مَا الْتَقَتْ عَضّاً وَتَمْزيقاً وَكَسْرَا | وَالضَّواري انْطَلَقَتْ لا تأْتَلَي | |
فَزِعاتٍ سَارِياتٍ كُلَّ مَسْرَى | هَجَمَتْ لِلْفَتْكِ ثُمِّ انْهَزَمَتْ | |
وَتَأَبَّتْ بَعْدَ جَهْدِ الصَّوْمِ فِطْرَا | كَثُرَ اللَّحْم شِواءً حَوْلَها | |
وَبِها ضَعْضَةُ النَّازِف خَمْرَا | تَتَهادَى مُهرَاقَاً دَمُها | |
* * * | ||
مُسْتَفيضَ الُّلجِّ ياقُوتا وَتَبْرا | دَفَقَ «التَّبْرُ» ضِياءً وَدَماً | |
رُبَّما كَدَّرَها الطائرُ نَقْرَا | كانَ بالأَمْسِ كَمرآةٍ صَفَتْ | |
قاتِماتٍ وَرُباً تَبْسِمُ خُضْرا | تَلْتَقي فيها صُرُوحٌ عَبَسَتْ | |
حَطَّمَتْها قِدداً رُبْداً وَغُرَّا | فإذا مَرَّتْ نُسَيْماتٌ بِها | |
مَنْظَراً و«التَّبْر» فِي الأَنْهَارِ نَهْرَا | حَبَّذا عِنْدَئِذْ مَنْظَرُها | |
مالِئاتٍ صَفَحَاتِ الماءِ سِحْرا | إِذْ تُرى الأَمْوَاجُ فِيهِ أََعْرَضَتْ | |
سابِقاتٍ في تَبَاريِها وحَسْرَى | كَجَوارٍ سابِحاتٍ خُرَّدٍ | |
آمِناتٍ لَمحات الرَّيْبِ طُهْرَا | لاهياتٍ، مُنربَاتٍ ضَحِكاً، | |
مِنْ ضَفِير الزَّبَدِ المُذْهَبِ شَعْرَا | أَرْسَلَ الحُسْنُ عَلَى أكْتافِها | |
بِيَدٍ عَبْراًَ وَبالأَخْمَصِ عَبْرَا | كُلُّ غَيْدَاءَ رَدَاحٍ ناوَحَتْ | |
وَهيَ غُصْنُ الرَّندِ أو أَرْشَقُ خَصْرَا | هِيَ نور الرُّوْضِ أو أزْهَى حُلى | |
وَتَنَاهيِ الظَّرْفِ إذْ تَرْفَضُّ ذَرّا | تارَةً تَبْدو وَطَوْرَاً لا تُرى | |
جِنَّةٍ وَارْتَدَّ بَرْدُ الماءِ سَعْرا؟ | أَيْنَ تِلْكَ العَيْنُ، هَلْ حَالَتْ إلى | |
سائِقٌ يُوسِعُها حَثَّاً ونَهْرَا | أصْبَحََتْ سُودَ سَعَالٍ ساقَهَا | |
أُرجوانٌ تْحْتَها مِنْ حَيْثُ تُفْرى | في مُسُوحٍ مِنْ قُتارٍ يَجْتَلي | |
وضَحوكُ الوَجْهِ مِنْها مُكْفَهِرَّا | عادَ صافي اللَّونِ مِنْها رَنَقاً | |
وَرَنَتْ أعْيُنُها النّجْلاءَ خُزرَا | شَرَقَتْ لِماتُها أَصْبِغَةً | |
كاسِباً مِنْ حَرِّ ما جَاوَرَ حَرَّا | صارَ غِسْليناً حَميما غِسْلُهَا | |
أنْ تُرَي سُوداً وَما أَبْهاكِ شُقرَا | أي بناتِ الماءِ غَبنٌ بَيِّنٌ | |
أَدْرَكَ الصَّفْوَ فَلَمْ يَرْدُدْهُ كَدْرَا؟ | ذلكَ ما أَحْدَثَهُ البَغْيُ وَهَل | |
* * * | ||
ّناشِراً أّعْلامَهُ كُمْتَاً وَصُفْرَا | قَامَ سورٌ حَوْلَ «روما» ساطِعٌ | |
مِنْ تَلَظِّيها قَتَاما مُسْبَكِرّا | تَحْتَ جَوٍّ مُلِئَتْ أَرْجَاؤُهُ | |
حِذْقَهُ رَسماً وَموسيقا وَشِعْراً | يَنْظُرُ الغاشِمُ في أَقسامِها | |
شِعراً | ||
فُرِّقتْ أَبْيَاتُهَا شَطْراً فَشَطْرَا؟ | أَتَرى تِلكَ الأعَاريضَ الَّتي | |
بِالطُّلَي سُحْماً وَبِالأَرْؤسِ حُمرَا؟ | أَتَرى التَّرْصيعَ في أَسْواقِها | |
مُعْقِباً مِنْ بيضها زُرقاً وعُفرا؟ | أَتَرى التَّدْبيجَ فِي أَلْوانِها | |
كَيْفَ يُطوى بَعدَ أَنْ يُنْشرَ نَشْرَا؟ | أَتَرى الخالِدَ مِنْ أَطْلالِها | |
ناسِخاً تَاريخَها عَصْراً فَعَصْرَا؟ | أَتَرى الوَرى بِلا تَوْرِيَةٍ | |
زَانَهُ في العَيْنِ أَنْ يُصْبِح إثرَا | كَمْ مَقَامٍ عَطِلَتْ زينَتُهُ | |
ساطِعاتٍ وَلِسَانُ النَّارِ يَقْرَا | كَمْ كِتابٍ بَرَزَتْ أحْرُفُهُ | |
بَعْدَهُ هازئَةُ الأَنوارِ قَصْرَا | كُلُّ قَصْرٍ مُتداعٍ شَيَّدَتْ | |
بَعْدَهُ في عُمْقِ الظَّلماءِ بِئْرَا | كُلُّ بُرجٍ مُتَرامٍ حَفَرَتْ | |
فَوْقَهُ سُخْريَةُ الشُّعْلولِ كِتْرَا | كُلُّ كِتْرٍ في المَباني رَفَعَتْ | |
وَغَدا مِنْها اللَّظى رخَّا ونَسْرَا | هَوَتِ العِقبانُ عَنْ أَنْصَابِها | |
قَدْ ترى عُصْفُورَها يَصْطادُ صَقْرَا | وترامت شُعَلٌ طائرةٌ | |
يَضْرِبُ الباشِقَ أَوْ يَهْدِمُ وَكرَا | وترى مِنْها فَراشا ناحِلًا | |
غَائِلًا فَرخا وَلا يَرْحَمُ ظِئْرَا | وترى مِنْها هُلاماً بَشِعاً | |
وعُيُونُ اللَّيْل بِالرَّحْمةِ شكرى | وَيْح «روما» تزدهي ذاكية | |
مِنْ تَشَظِّيها ولا أَعْذَبُ ثَغْرَا | لَمْ يَجِدْ «نَيْرونُ» أَبهى فَلَجاً | |
كَما الذي أَفْعَمَهُ إِذْ ذاكَ بِشرَا | لا ولم يفعمه بِشْراً حَدَثٌ | |
فَزَعِ الصالين يَبْغُون مَفَرَّا | غَايَةُ الِإضْحاكِ ما أَلْفاه مِنْ | |
في تَعاديهم إِلى يُمنَى ويُسْرَى | وَالإشاراتُ التِّي يُبْدُونَهَا | |
والمجانيِن مُنَاباةً وَهَترَا | كَرِعَال الجنِّ رَقْصاً فِي اللَّظى | |
وَبَتولٍ تَحْتَ سِتْرِ الوَهْجِ تَعَرَّى | ربَّ عارٍ بِقروحٍ يَكْتَسي | |
وضريرٍ مُتَلَوٍّ حَيْثُ قَرَّا | وهزيٍم وَثَبَتْ أَعْيُنُهُ | |
وَضَليعٍ مَات تَحْتَ الرَّدْمِ هَطْرَا | وَنَحِيفٍ باتَ ظِلًّا واجِفَاً | |
تصويراً | ||
في أَفانيِن الأَذى يَأْبَيْنَ حَصْرَا | فِتْنُ النَّارِ إِذا مَا أَذْهَبَتْ | |
بِدَعٌ جَاءَ بِها التَّنْويعُ تَتْرَى | وَمن الممتعِ فوقَ الُمشْتَهَى | |
غار منها جانب في الماء طمرَا | هذه قنطرة شاهقة | |
مِنْ حُلِيٍّ كُنَّ مِلءَ العَيْنِ سَبْرَا | ذاكَ صَرْحٌ جُرِّدَتْ أَطْلالُهُ | |
ظَلَّ يَسْقيها سَحَابُ العَفْوِ ثَرَّا | تِلْكَ مِنْ عَهْدٍ عَهيدٍ دَوْحَةٌ | |
وَخَبَتْ بَيْنَ مُدلاةٍ وَكَسْرَى | عَقَدَتْ أَغْصانُها تَاجَ سَنىً | |
صورا أَسوَغَ في النَّفس وَأَمرى | ثمَّ حَوِّلَ وجهَةَ الطرف تَجد | |
دارَ آنا في مدار ثمَّ خَرَّا | نمر من فرط ما حاق به ، | |
حينَ مَسَّ الأَرضَ نَشَت منه حرى | سَال من فَكَّيه دامى زَبد | |
صارَ كالهر وما يرهب فَأرا | فَهد غاب كسرت شرته | |
ببقايا رَوقه يَنطح صَخرَا | وَعل من شدة البرح ارتمى | |
يلف من شئ سوى الرَّمضاء جحرَا | وَرل أَفلَتَ من جحر فَلَم | |
شكة لاحت بها الألوان كثرَا | قُنْفُذٌ أَوقد من أشواكه | |
والذنابى عجلت خلجا وأَبرا | عَقرب شَالت زبانى رأسها | |
يَك إلَّا أفعوانا مسجهرا | شبه برق لاح للطرف وَلَم | |
أم خَشاش حَية تسجر سَجرَا | صور، لَم يدر آيات سنى | |
لابس الوهم به الحق فغرا | وَسوى ذلك كَم من منظر | |
وهي تستعدي على فيل هزبرا | كَم مهاة من دخان ألفيت | |
ضرم نابا به يسطو وظفرا | كَم سبنتى حنق أقرضه | |
كشهاب وتردى مصمقرا | كَم غراب قد تَبَدى واقعا | |
بغتة تقتنص البازي حرّا | كَم عقاب درجت فانضرجت | |
أَشبه المزنة إيماضاً وَقَطرَا | كَم سَحَاب من هَبَاء ساطع | |
سماعاً | ||
لَم يَكن يَوما بظنّ ليمرّا | رؤَية أَربت على الرّوؤيا بما | |
تارك في مسمع الأحقاب وقرَا | دارَ فيها طَرب مختَلف | |
وَبَنوها حَولَها يبكون ذعرَا | تركض الأم تغَنّي هَلعاً | |
غَرق وَالوقد لا يَألوه هَدرَا | ويهدّ الكهل هَدَّ الفَحل في | |
وَحوافيه الرّبى يشبه قدرَا | كادَ رَحب الجَّوّ من حَشرَجة | |
واختلال مزهق حَشداً وَحَشرَا | في اختلاط مرهق سماعه | |
بَينَ منكوسة إكليل وعقرى | سرحات قصفت محضأة | |
فنيت ضربين لآلاء ووغرا | رجبة من عوسج محتدم | |
وَصدى يزقو مهيجا مزبئرّا | ضَبع تعوّي وَذئب ضابح | |
ثَورَة الحمي به يَزأَر زَأرَا | ضَيغم من سورة الحمّى ومن | |
فَهوَ يَشكو أَنَّه لَم يَقض أَسرَا | طَالما زَمجَرَ يَشكو أَسَرَه | |
وَغراب ناغب عشرا فَعشرا | ثَعلَب يَضغو وَفَهد ضاغب | |
مَسّ بَعدَ القرّ بالحرّ فهرّا | وَمن الأكلب حامي بركة | |
تنسف الدّوح وتذوي العشب صَقَرا | ما سموم نفختها سقر | |
وَتَوالى هزقها عزما وَفَترَا | خَافَتَت آنا وآنا عَزَفَت | |
بثّه بثّا وَقَد ضويق حصراً | عِندما في مارج من لاعج | |
بَينَ تيّار ودردور مجرى | ما اصطِخابُ اللَّجِّ في حِيرَتِهِ | |
لَم يَصن تاجاً وَلَم يَستَثن جَذرَا | كاصطخابٍ مِن وَطيس هَادم | |
طَربا مزهرك الرّائع نبرا | ذاكَ يا «نَيْرونُ» لَحن زاده | |
في مزاج يفطر الأكباد فطرَا | جمع الضدّين لم يجتمعا | |
جعلت وفقهما خفضا وجهرَا | بين أصوات على نكرتها | |
وذماء من حشّى يصعد زفرَا | هَيكَل يسقط في قَعقَعة | |
* * * | ||
هكذا التَّطريب مَوتا أَو أَحرَّا | هكذا التَّصوير أَحيا ما يرى | |
يصحب العود به طَبلًا وزمرَا | هزّ بالإيقاع أفلاكاً وَلَم | |
خفَّ وزنا وجرى بالدَّم بحرا | هكذا الشِّعر بلا قافيةٍ | |
رقّ فالنّاس أرقّاء وأسرى | عظمت فتنته من فرط ما | |
إنّما العاجز من كنّى وورّى | لا كنايات ولا تورية | |
يَستعِر صبغا له أو يجر حبرا | من «كنَيْرون» أتى بالرّسم لم | |
أية يمحو بها قوماً ومصرا | مثبِتاً في لَيلَةٍ مبصرةٍ | |
ملء هذا الكون إذ تلفيه صفرا | بَينَما تنظر ربعا أهله | |
ظرفاء الوقت بالإبداع بهرا | يا لها غرّ فنون بهرت | |
يترقى الخلق أو يقرأ سفرا؟ | أين منها ءسأن مفنى عمره | |
إن شدا أو متقناً إن خطّ سطرا | ليراه بعد جهد محسناً | |
* * * | ||
يجد الناجون في ذلك نكرا | دمرت حاضرة الدنيا ولم | |
أنّ في الغيب لذاك الهول سِرّا | أوشكوا أن يجمعوا رأياً على | |
كبد تَلفَى عَلى الأَنذال حرّى | لَستُ مَحزونا على القوم وهل | |
وَغَلا رَسماً وَزَادَ النَّظمَ نَثرَا | فَلَقَد أَغرَقَ في أيقاعِهِ | |
أَنَّه لَم يَعتَدل نَقشاً وَحَفرَا | وَلَعَلَّ الهَفوَةَ الأخرى لَه | |
بادَ خَنقاً أَو توى حرقاً وَثَبرا | ذاك هَمّي لَيسَ هَمّي بَلداً | |
إن أَزرى الخلق شَعب مَاتَ صَبرَا | ما عَلينا من غَريمٍ غارم | |
كل من شقَّ عَلَيهِ العَيشُ حُرَّا | لَيَسَ بالكفؤ لعيش طيِّب | |
* * * | ||
وهو شرّ القوم مما كان شرّا | إن «روما» جعلت «نَيْرونُها» | |
كلّ ملك جاء عفوا راح هدرا | بلّغته الملك عفوا فبغى | |
فإذا ما هان كسبا هان خسرا | يقدر الشئ معاني كسبه | |
دائب الإجرام عوّادا مصرّا | عاث فيها مستبدّا مسرفا | |
غير هم الخطر المكسوب قمرا | وهو لا يمنحها من باله | |
إن للخامل عند الذكر ثأرا | ليس في تشنيعه من بدعه | |
إن للظالم عند العدل وترا | لا ولا في ظلمه من عجب | |
* * * | ||
ذلك الذّنب له ماشاء غفرا | بم غرّ القوم حتّى غفروا | |
حيث لا يجدر أن يبلغ عذرا | بل قضوا أن يمنحوه حمدهم | |
معشرا مستضعف الجانب نزرا | ذاك أن أتهم ظلما منهم | |
كان منه ملحقا بالوزر وزرا | فَرَمَى مُلَّةَ «عِيسى» بِالَّذي | |
ذنبه، ما كان أنآهم وأبرا | زاعما أن النصارى قارفو | |
لم تكن فيهم من المعشار عشرا | والنصارى فئة يومئذ | |
تقتني جاها ولا تملك وفرا | ما بها حول ولا طول ولا | |
جهد ما تمنى به خسفا وعسرا | لا تبالي دون من تعبده | |
تحجب التور ولا تعتاق فجرا | دينها في فجره والسحب قد | |
لجياع الوحش في الملغب جهرا | عنّ للغاشم أن يطعمها | |
فرط ما الشّعب بذاك اللّهو مغرى | وبهذا يترضّى شعبه | |
ويظل الحق عنه مستسرا | فيظل البطل فيه عاليا | |
في مقام زاخر بالخلق زخرا | أمر الطاغي بها فاحتشدت | |
فارتمت مجنونة وثبا وجأرا | ورماهم بالضواري قرمت | |
لم يضق إيمانهم بالضيم حجرا | فَتَلقَّاها النَّصارى وهم | |
ضاحكو الآمالِ ما الخَطْبُ اكفَهَرَّا | سُجَّدٌ، شادّونَ، سَام طرفهم | |
ثُمَّ شدّت وَهيَ لاتَرْحَمُ شفرا | بربرت تِلْك الضّواري دونهم | |
ما اشتهت نهمتها عظما وهبرا | هشمت وانتهشت وافترست | |
في الزَّوايا تَتَوَخَّى مستَقَرَّا | ثمّ كلّت شبعا وافترقت | |
وَهوت مَمْلوءَةً بِالدَّمِ سِكْرَا | سُكَّرُ الأشهادِ إِعْجاباً بِها | |
يَتَلافى إِثْنه الأَوَّلَ سِتْرَا | ذاكَ ما رامَ بِهِ «نَيْرونُ» أن | |
آثِمٌ فِي الإِثْمِ لا يَرهَبُ عزرا | وَإِذا مَا أَسَعَدَ الجَهْلُ، غَلا | |
كُلَّما ازْدَادَ انْطِلاقاً زادَ حضرَا | شيمة المُوغِلِ في إِجْرامِهِ | |
قَبْل أَنْ يبني للإيواء جدرا | شادَ للإلهاءِ ذاك المُنْتَدى | |
شيد للألعاب محبورون حبرَا | والألى زالت مغانيهم بِما | |
وهو يقضي في بِناءِ اللَّهْوِ شهرا | بطء يومٍ فيهِ إيداء بهم | |
* * * | ||
حينَ راحَ المَوْت فِيهِمْ مُسْتَحِرا | خَابَ مَنْ خالَ النَّصارى هَلكوا | |
وَأَنَّهُمْ قلّ غَدَوا بِالقَتْل كثرا | فالّذي أَوْلَدَهُ الفَتْكُ بِهِمْ | |
وَمَولّاهُمُ عَلى الأَحْبَارِ حبرَا | ثُمِّ أَضْحى مُلْكُ «روما» مُلْكَهُمْ | |
كَمَنَتْ ثُمَّ عَلَتْ وَثْباً فَطَفْرَا | هكذا الفِكْرَةُ مَنْ أَرْهَقَها | |
* * * | ||
كلَّما جرَّ عَليها الظّلمَ دَفرَا | درت الأُمَّةُ مِن ظالِمِها | |
بَعد أخرى، وَتَمادَى مستَشرَّا | وَعلى ذاك تَغَابَتَ مَرَّة | |
أو تَصَدى للّوى لَم يحم ثَغرَا | لَو أَرادَ القسط لم يكفؤ له | |
يَمْنَحُ الدَّائِلَ مَجْداً مستمرّا | فاتَه في نَفِسِه السِّرُّ الَّذي | |
مثل الدّهر بها هَزْءَا وهَزْرَا | فَتَوَخّى الفَخر من سُخْرِيَة | |
شاءَ، فَعَّالاً لِما اسْتَحْسَنَ جَبْرَا | لاهِياً بِالنَّاسِ، قَتَّالاً لِمَنْ | |
مَلْعَبُ الدُّنْيا تَخَطَّاهُ وَمَرَّا | لاعباً حَتَّى إِذا ضاقَ بِهِ | |
بيَدَي مستَأجَرٍ أَوْسَعَ بِرَّا | فَقَضى حينَ اقتَضى منتحراً | |
ضارِباً بَيْنَ وَغد وَالأمس سترا | راكِباً مَتْنَ النَّوى لما نوى | |
خَشيَت حِرْمانَهُ دَفْناً وَقَبْرَا | ملقيا جسما إلى أمته | |
لَمْ تََكُنْ تَدْري لِما تَفعَلُ قَدرَا | سَرَفاً فِي الذُّلِّ حَتَّى إِنَّها | |
* * * | ||
أمّةً لَوْ كَهَرَتهُ ارتَّدَّ كَهْرَا | مَن يَلم «نَيْرونُ»؟ إني لائمٌ | |
لَانْتَهى عَنْها وَشيكاً وَاثْبَجَرَّا | أمِّةٌ لَوْ ناهَضَتْهُ ساعَةً | |
دُونَهَا مَعْذِرَة التّاريخِ أُخْرى | فازَ بِالأُولى عَلَيْها، وَلَهُ | |
* * * | ||
«قَيْصَرُ» قيلَ لَهُ أَمْ قِيل «كِسْرى»! | كلّ قَوْمٍ خالقو «نَيْرونُهم» |